الكثير من الحب*
د.أيمن محمد الجندي**
في عالم القطط تتدلل الأنثى أمام شغف الذكر
الأنثى هي الأنثى في كل مكان، والحب هو الحب في كل زمان. السلام النفسي لا أجده إلا في رحاب اللون الأخضر، حينما أجلس في الحديقة يدهشني كل هذا الجمال الكوني من حولي، هذه الكائنات الرقيقة التي تسمى الزهور، درجات اللون الأخضر التي لا تحصيها العين، صفاء السماء الزرقاء، لَهْو السحب البيضاء، شقاوة العصافير وطيرانها في أوضاع متهورة لا يمكن أن يكون القصد منها إلا اللعب!، هبات العطر الرباني تحملها النسائم اللعوب.
لكن في هذا الصباح لم يدم السلام طويلاً، هناك في موضعي المختار، حيث اعتدت الجلوس في ظل شجرة مثقلة بزهور الربيع.. زمجرة غاضبة وفحيح مخيف وأقدام غاشمة تتسابق، وفي لمح البصر شاهدت قطة تتسلق تلك الشجرة المزهرة في خفة ورشاقة، بينما توقف عند الجذع العجوز قطّان لم يصعدا خلفها..
كان انزعاجي بالغًا من تلك المطاردة القاسية خصوصًا عندما (بخ) أحد القطين في وجه الآخر، ولم يكتفِ بذلك، بل أنشب أظافره أيضًا، لم يبادله الاعتداء وإنما وقف متنمرًا متحديًا مصدرًا ذلك الفحيح المخيف، ووقف الخصمان تحت الشجرة المفعمة بالحب والجمال كندّين عنيدين يقيس كل منهما قوة الآخر، وبدا نوع من توازن القوى بينهما فلاذ كل منهما بالصمت المترقب..
عالمي البشر والحيوان
وأوجعني قلبي وأنا أفكر أن ما يحدث أيضًا في عالم الحيوان يحدث أيضًا في عالم البشر، نفس القسوة والمطاردة المستميتة والرغبة في إيلام الآخرين.. السلام تجده في عالم النبات فحسب، الطمأنينة والسكينة والسكون؛ لذلك لا عجب ألا أشعر بالأنس إلا في رحاب اللون الأخضر..
لكن القطة الوادعة كانت ترقد على الأغصان في هدوء واسترخاء عجيبين، وبدت لي تلك الطمأنينة مستغربة من قطة مطاردة منذ دقائق معدودات. على كل حال فقد سكن قلبي قليلاً وذكّرت نفسي أن الطبيعة تُصلح نفسها بنفسها فلا داعي لإيلام نفسي بالأفكار المحزنة.
عجيب حقًّا سلوكها هذه الأيام!! عدوانية بشكل يخالف طبيعتها المسالمة المعتادة.. والدليل هو ما حدث بالأمس أيضًا، نفس الفحيح الغاضب الذي أفزعني إلى حد جعلني أبتعد بالمقعد تمامًا عن مخالب تلك القطط المتوحشة المسعورة، يجب تنبيه رجال الأمن حرصًا على سلامة الأطفال؛ لأن الـ... أخْ... يا لي من أبله، ضربت بيدي على جبهتي، لقد فهمت الآن سر هذا السلوك العجيب: إنه نداء الطبيعة!!، موسم الحب يا أحمق.
نداء الحب
يزعمون في الأساطير الشعبية أن القطط حينما يناديها الحب تنادي نبي الله داود عليه السلام الذي ألهمه منطق الطير وأفهمه لغة الحيوان، ابتسمت في خاطري وقد بدا الأمر يروق لي، نظرت في فضول للقطة المسترخية على أغصان الشجرة المثقلة بالزهور التي تحولت -في لمحة بصر- إلى مهد الغرام ووطن للعشق والعشاق..
القطة كانت جميلة بشكل محير، جمال يصعب وصفه، بل يمكنني القول بلا مبالغة أنها كانت أروع أنثى رأيتها في حياتي، يعكس وجهها وداعة لا علاقة لها بالكوكب الأرضي الملوث بالدماء، ملامحها رقيقة جدًّا وعيونها متسعة وصافية
"مقطقطة"، وبالتأكيد تستحق ذلك الصراع الدامي بين الخصمين أسفل الشجرة.
وكأنها لاحظت نظراتي المتعاطفة معها فراحت تنظر لي في وداعة وكأنها تستنجد بي من تلك الذكور المتحمسة التي رفعت رأسها في نهم مفضوح مبتذل، لا شك أن شيئًا كهذا يحدث في عالم البشر، تراقبه الملائكة وترثي لنا!!.
وبعد الكثير من الصبر والانتظار الملول قفز أحد القطين إلى الشجرة خلف الحسناء، خصمه لم يحاول منعه، ولكنه ظل ينظر إليه رافع الرأس في ثبات، بدا لي واضحًا أن الجريء يوشك أن يفوز بقلب الحسناء، لا بد أن حوارًا صاخبًا بلغة القطط حدث بينهما.. أشياء من قبيل:
- أنا أقوى منك وأغنى!! جاهز من مجاميعه وعندي شقة تمليك، وإذا لم تنصرف ضربتك علقة!!.
القط الجريء الذي تسلق الشجرة وقف لبرهة عند ملتقى الغصون بالجذع، أما الحسناء فتمددت في استرخاء على الغصن، وكأنها لا تلاحظ من الأساس تلك المطاردة الغرامية التي تدور لأجلها.. وتشجع القط بصمتها فصعد قليلاً وهو يموء متوسلاً فتسلقت الحسناء إلى غصن أعلى في رشاقة ودلال، ثم جلس كلاهما في صمت مترقب.. وبدأت أشعر أن الحسناء غير مستاءة من تلك المطاردة المستميتة كما تحاول التظاهر بهذا.. وربما لو كفّ عن مطاردتها لاستاءت جدًّا ولأسقط في يدها، لكنها مثل أي أنثى لا تستطيع أن تمنح نفسها بسهولة، قوانين الطبيعة المحكمة تأبى ذلك، من حقها الكثير من الدلال في مواسم الحب، لا بد من النظرات الطويلة والبسمات المختلسة والكلمات المعسولة، تلك هي طقوس الغزل في كل زمان ومكان.
الجريء والجميلة
ومرّ الكثير من الوقت، وانساب الجريء نحوها في هدوء متسللاً محتلاًّ موقعًا إستراتيجيًّا لا تستطيع الحسناء من الهبوط بدون المرور به، فانسحبت إلى قمة الشجر عند آخر غصن من غصونها، وقتها فقط بدأت تموء في احتجاج حقيقي:
- أف.. هو اسمه إيه ده؟
- عاشق يا جميل.
- سم كده!!
وبرشاقة بالغة لا تصدق قفزت إلى غصن بعيد في الطرف الآخر من الشجرة.. وبدا لي بوضوح أن الذكر لا ينوي اقتحامها بأي حال، وتكشف لي قانون مرهف من قوانين الطبيعة المحكمة، لا عنف في الأمر ولا اغتصاب، لا بد من الرضا في نهاية الأمر، ولكن لا بد أيضًا من الصبر.. الكثير منه.
يحدث ذلك في عالم البشر، تبدأ الأنثى خائفة من الذكر وتوصد أمامه كل الأبواب، بعد وقت يطول أو يقصر توارب له بابًا، تفتح له نافذة، تشعر بحاجتها إلى وجوده، تعتاد عليه. وقتها فقط يفوز بالجائزة الكبرى: قلب الحسناء..
كان القط ما زال محتلاًّ موقعه الإستراتيجي، قالت الحسناء -كالمضطرة- ذلك السؤال الأنثوي الخالد:
- ماذا تريد مني؟
فابتسم القط ابتسامة وغد عريق مدرَّب على أمثال هذه المواقف، وقد أيقن بقرب سقوط الثمرة في يده، وقال ما معناه: القرب يا جميل. قالت الحسناء في مكر أنثوي: لقد فاجأتني!!! كلِّم بابا.
قال في إغراء: لديّ شقة سوبر لوكس، وشبكة ألماس!!
دارت الحسناء ابتسامتها فاستطرد قائلاً: والفرح في شيراتون!! قاعة الياسمين.. والمطرب سعد الصغير، ثم همس مدندنًا في أذنيها: - العنب العنب العنب!!!
واستمرت المفاوضات بينهما تتخللها نظرات وابتسامات، وبدا واضحًا أن كليهما قد نسي تمامًا وجود القط المسكين الذي راح يرقب هذا كله في صمت مقهور من موقعه تحت الشجرة، حزينًا عاجزًا عن الانصراف.
كانت الحسناء تتسكع على الأغصان المثقلة بالزهور سعيدة بالدلال، مزهوّة بتقاتل العشاق، أما أنا فرحت أهتف من أعماق قلبي:
الحب، ما أروعه!!..
الحب، ما أقساه!!..